حـــــامـــد
وقف أمام منزل المرحوم حامد ؛ الرجل الأربعيني الذي فقد حياته في حادث سير شنيع منذ أسبوع . دقّ الجرس ، فأجابه صوت أنثوي فاتر :
- نعم!!
- أنا سعيد الذي حدّثتكِ بالأمس ، هل يمكن أن أطرح عليكِ بعض الأسئلة ؟
أجابته بنبرة هادئة:
- سأفتح الباب حالاً..
عرف سعيد أثناء عمله الصحفي كيف يلعب جيداً على وتر التعاطف مع ضحايا حوادث السير العنيفة بحكاية قصيرة عن حياة الضحية الهانئة ، أو صورة باسمة له مع أولاده ، لذا زار الشركة التي كان يعمل بها حامد بحثاً عن تفاصيل أكثر حول الرجل الذي شوّهه بالكامل حريقٌ تبـِع الحادث ، لكنّه لم ينل إلا عباراتٍ قاتمة مثل " كان بعيداً جداً .. لم نكن نلحظ وجوده ، .. ولم يلحظنا " و " كان يعمل بصمتٍ تام .. ولا يرفع رأسه أبداً " . أثاره هذا الغموض وجعله يقرّر مقابلة زوجته بنفسه ، فربما حصل منها على معلوماتٍ أدقّ.
سمع صرير الباب ، وظهرت خلفه امرأة تتجلل بالسواد . وقفت وقفة ساكنة غير مرحبة ، واضطر أن يحدثها من خلف الباب
- أعتذر إن أثرت الذكريات الحزينة بعد أن خمدت ، لكنّي أحتاج لبعض ..
قاطعته بلا انفعال
- لا عليك .. اسأل فقط
استشعر عدم حماسها للأمر ، وقرر أن لا يضيّع الوقت ويسألها مباشرة عمّا يشغل ذهنه ..
- كيف كان شكل المرحوم حامد ؟
- كان أسمراً ، ناحلاً ، متوسط الطول ، ثمّ أضافت بعد فترة صمت ... وكان يسير .. يسير دائماً دون أن يلتفت ..
- ماذا عن وجهه ؟
- كان بيضاوياً بشفتين دقيقتين يعلوهما شاربٌ خفيف ، وأنفٌ طويل مستدق .
- وعينيه ؟
- عيناه!!
- نعم ... اتساعهما ، لونهما ، نظراتهما ؟
ردّت بعد تفكير عميق
- أذكر شكله جيّداً ، لكن لا أذكر أنّ له عينين !
أثار ردّها الغريب حيرته ، وفكّر أنّها اللحظة المناسبة ليطلب ما جاء فعلاً من أجله
- هلاّ بحثتِ عن صورة ٍ له .... من فضلك ؟ نطق الكلمتين الأخيرتين بتوجّسٍ وعلى مهل
همهمت بعد تردد:
- سأبحث في أدراجه
سمع صوت خطواتها مبتعدة، وأمل كثيراً أن يشاهد صورةً لحامد الذي لا يلحظ أحد، ولا يرفع رأسه، ويسير .. يسير دائماً دون أن يلتفت . لم تبقهِ منتظراً لفترةٍ طويلة .. عادت وتكلّمت قبل أن يسألها ..
- كانت له عينان .
ابتهج لنبرة الثقة في صوتها ..
- هل وجدتِ صورةٍ له ؟
- لا .... لكنّي وجدت نظارته .
هل خفتِ يوما من أن تحكيك القصص؟ هذا الحامد بعدما قرأته تراءى لي كثيرا فيني، لم أفكر في انطباعي المتروك عند الآخر، أي آخر وهذا مدعاة للقلق. تغوص النفس في ذاتها المجردة من كل شيء ما عدى رغبتها الملحة في المسير، فقط اتمام المسيرة بأي شكل، ونفقد الانفعالات الصغيرة وتفاصيلها!
ردحذفهذا النص تلاعب بي كثيرا، جعلني أفكر جديا بتغيير نظارتي السوداء إلى لون أكثر حيادية، رمادي ربما، نصك عشته، بلا عينين.