بين ضرسـيـن
جلستُ على كرسيٍ مقابل مكتب السكرتيرة ، يفصلني عنها ثلاث طاولات متداخلة بتدرّج ، يحتل سطح الأكبر بينها " ترموس" قهوة مثلث الشكل ، وصحنٌ معدني مزخرف الحواف . صبّت لي فنجان قهوة ، وقدّمت لي صحن المعمول المعدني . تناولتُ فنجان القهوة ، ونقلته لليد اليسرى لأعاود التقاط قطعة معمول .
ابتسامتها لم تفلح في تمديد الجزء السفلي من وجهها ، وبدا مثلثاً أصغر قليلاً من" ترموس" القهوة . استقرّتْ على مكتبها ، وأنا قضمتُ قطعة المعمول .. مضغتها بتأنٍ وابتلعتها ، ورشفتُ القهوة ساخنة ..
تحرّك لساني مبعداً بقايا الطعام عن أسناني .. لكن ، آه .. لا .. لا يمكن أن يحدث ذلك !! ليس الآن !!
علقتْ قطعة سمسم بين الضرسين العلويين في نهاية الجهة اليمنى من فكّي . أعرف تلك النكهة جيداً ولا يمكن أن أخطئها .. تلك الحبّات اللعينة التي تستقرّ دوماً في ذات المكان ..
رفعتُ القطعة المتبقية من المعمول بضيق لأعرف أين اختبأت حبّات السمسم !! .. لم يرشّوها على السطح حتّى لا أراها ، وإنما دسّوا بعضها في الحشوة بكل خبث .
لساني لا يهدأ في محاولة نزع قطعة السمسم ، ودوائر قلق تتداخل في رأسي .. إن لم تخرج حبّة السمسم حالاً ، سيظل لساني ملتصقاً في فكّي العلوي عندما أدخل إلى المديرة بعد قليل . ستتعجّب من تلعثمي ، وتمتمتي بكلماتٍ لا معنى لها تندسّ بخجلٍ في الأدراج نصف المفتوحة ، بين شرائح الستارة المتهدّلة ، ووسط الملفات المرصوصة .. ستستهجن صوت انفلات لساني الذي سيشفط ويشفط بلا يأس .. وستشعر بالقرف عندما أنشغل عن أسئلتها برفع جانب شفتي العلوية بإبهامي لأخرج تلك القطعة العنيدة .. وعندها ، ستعتذر بتهذيب لاختيارهم متقدمةٍ أخرى للتدريب على استخدام الحاسب الآلي في معهدهم .
فتحتُ حقيبتي بحثاً عن أي طرفٍ حاد . تركتُ هاتفي الجوّال ، ورفعتُ قلماً يعبّاً بأعواد رصاصٍ اسطوانية من المقاس 0.7 .. زفرتُ بسخط ، وتركته يسقط إلى عمق الحقيبة .. فلم أشأ أن انتهى بمشكلتين ؛ قطعة سمسم ، وكسرة رصاص في فمي .
أكره أن يعلق شيءٌ بين أسناني ، خصوصاً حبّات السمسم . أنشغل دائماً بتلك التفاصيل الصغيرة ولم أتمكن يوماً من تجاهلها . أحمد ، الذي يزور غرفتي أحياناً ، يقول : عندما أرى مجلّة أوراقها مقطوعة الزوايا ، أو علبة مناديل منزوعة البلاستيك ، أعرف أنّكِ مررتِ بها .
بنظرة سريعة مسحتُ الغرفة ، وشاهدتُ علبة مناديل على حافة المكتب . اقتربتُ لآخذ العلبة ، ولخيبتي الشديدة ، كانت من النوع الرخيص الثمن ، الذي لا يضعون فيه بطانة بلاستيكية تحت غطائه الكرتوني القابل للنزع . ريالان حرماني من التلذّذ بمط البلاستيك ، وإدخاله بين ضرسيّ ، وسحبه لتخرج معه قطعة السمسم .. ريالان فقط .
عدتُ بتثاقل وتراخيت على الكرسي . لساني لا يزال يعبث في فمي ، وأصابعي المقلّمة الأظافر تتناوب في محاولاتها ، وصوتُ انفلات لساني يتكرّر ، والدوائر القلقة تتنامى وتتسارع في عقلي .
دخلتْ ذات الوجه المثلّث على المديرة لتعود بعد دقيقة وتعلن أنّ الوظيفة لم تعد شاغرة ، وتعتذر عن ضياع وقتي .. ضاق وجهها المثلّث بنفاد صبر وهي تقترب من باب الخروج ..
لم أتحرّك .. بقيتُ ساكنة وأنا على يقينٍ من أنّ لقطعة السمسم اللعينة يداً في ذلك القرار وسألتها بجديّة :
- هل لديكِ عود أسنان ؟؟
تعلمين بأن الدواس هي المعلقة القلقه في دولبنا
ردحذفالدرج النصف مفتوح يفضح أكثر من الأختباء