الخميس، 1 نوفمبر 2007

حين أكون ..




حين تقصر الظلال عن حجبي بالكامل ، وينكشف بعضي مثل حافة ورقة تطل من درج مغلق ..
حين ارتدّ عن خطوة اتجهت يميناً قبل أن يكتمل أثرها على الرمل ، وأنسى فمي مفتوحاً بعد آخر آهٍ ، فيملؤه الصمت ..
حين ينثلم حلم الليل ، وفي الصباح ، أصحو فاترة كموعدٍ مــمل ، ناضبة كـوادٍ عتيق ، مستوية كأرضٍ لم يضاجعها محراث ..
حين يتلبسني قلقٌ فائض ، قلقٌ من النوع الرديء جداً والذي يشبه لباساً ورثته من إخوتي الكبار ولم يحفل أحدٌ بقص أطرافه ..
حين أنكمش كـ " كريمة " قديمة في الثلاجة متغضّنة السطح ، ومنفصلة عن حواف الصحن ..
حين أحزّ أصابعي وأنا أحاول قطع خيط البلاستيك العالق بـ" تكت " الملابس الجديدة ..
حين تخرج رغبةٌ مجنونة من اللامكان وتتمدد بخفّة على ذيل فستانٍ يتعلّق بخصر فتاة شاهدتها يوم الخميس الماضي ولا أذكر اسمها ، وثانية تندّس بين الكلمات المسحوبة على شريط الأخبار في قناة العربية ، وثالثة تقفز بشيطنة على دوائر ظلال العيون البرّاقة في الدرج العلوي من تسريحة غرفتي ..
حين تفقأ أثلة عين غرفتي ، وتعميها إلى الأبد ..
حين أحاول تخطي مكتبي الباهت الزخرفة، ويرتطم فخذي بحافته الحادة لأني لا أجيد تقدير المسافات...
حين أحمل مخزوناَ من الشحنات الكهربائية أكثر من المعتاد ، فلا أصافح الناس أو أقترب منهم خوفاً من اللسع ..
حين أكون ..

الثلاثاء، 16 أكتوبر 2007

لا مشكلة لديّ ..





لا مشكلة لديّ ..
فالصباح سيأتي بعد قليل وسينزع اللفائف عن مومياء الليل لتستيقظ أوجاع العظام .


لا مشكلة لديّ ..
بالأمس سقَف أبي الشرفة فصارت مخزناً إضافياً .. ولن تحاول الطيران بعد اليوم.


لا مشكلة لديّ ..
فالسماء قالت لي : توقفي عن شدّ خيوط المطر ... لن أنزل إليكِ .. لكن أنتِ من سيصعد إليّ .


لا مشكلة لديّ ..
أنا الآن في قمة العادية ولا ألفت انتباه أحد . أرتدي قميصاً بلون مبحوح به الكثير من النعس ، وبقصة حول عنقي وقورة جداً .


لا مشكلة لديّ ..
يمكنني أن أموت الآن أمام الجميع بطريقة جيدة ولائقة ، فقد متّ مراراً من قبل .


لا مشكلة لديَ ..
لن أهرب بعد اليوم إلى غرفتي حين يزور جارُنا والدي ، فقد أصيب منذ شهرين بالعمى .


لا مشكلة لديّ ..
لن تجبرني والدتي على ترتيب سرير أخي كل يوم ، فقد رتبّه جيداً قبل أن يهاجر ..


لا مشكلة لديها ..
لن تتضمن قائمة طلباتها حبوب "gynera" ، أو فوطاً صحيّة .
لن يتعكر مزاجها وتثقل حركتها يومين في كل شهر .
لن تضطرّ أحياناً إلى فتح المصحف بقلم الرصاص عندما يحين وقت التلاوة في حصص القرآن .
لن تُحرم من لبس البنطلونات الضيّقة ، وانتعال الأحذية العالية الكعب .
لن تُجبر على دخول محل " مراحل " الذي تكرهه كثيراً .
لن تتناسل همومها من انتفاخ بطنها ، ومن لحظات المخاض ، ومن معاناة التربية .
لن يكون هناك من يوقظها مراراً في الليل لتعتني به .
لن يتبدّل روتينها الذي تألفه لسنوات ..
فقد تأكّد أن الورم خبيثٌ ولابد من استئصال رحمها ..

الخميس، 27 سبتمبر 2007

لوحة وقراءة

"معتمون من الخارج، شديدو النصوع من الداخل."





التوغلّ في الطبيعة البشرية ، الغارقة في الروحانية هي السمة المشتركة لكل لوحات الأمريكي الأفريقي الأصل ، هنري تانر . الرسام المشحون بمعاناة السود في أمريكا ، والناشئ في حضن أحد الأساقفة في القرن التاسع عشر في بنسلفانيا ، أخذ على عاتقة مهمة تبديل الصورة الهمجية الشائعة عن الأفارقة الأمريكيين بكل ذكاء وحرفية .


في لوحة THE BANJO LESSON المستوحاة من قصيدة للشاعر بول دونبار كانت رسالته واضحة ودقيقة جداً . ابتعد تانر عن تقديم النموذج النمطي في تصوير السود بحالة بائسة تستدر الشفقة ، أو بصورة ساذجة سطحية .. لوحته التعبيرية تلك تضمنت رجلاً يعلّم حفيده الصغير العزف على آلة البانجو . لم يكن اختيار البانجو - الألة الأفريقية الأصل - عشوائياً ، فقد أراد لفت النظر إلى رهافة الحس التي يملكها السود وذائقتهم الموسيقية الفريدة . كل ما في خلفية اللوحة يحمل دلالة رمزية تدعم الفكرة المعنوية لها . الأواني البراقة والمفرش النظيف ، العتمة التي تزداد عند طرف اللوحة السفلي -والذي يمثل المدخل للمنظور بشكل عام - توحي إلى أن كل السود بفطرتهم ، معتمون من الخارج ، شديدو النصوع من الداخل . الزرقة الحانية التي تتوازى مع الضوء في عمق اللوحة ، تؤكد ارتباط هذا الشعب المقتلع من موطنه باللون الأزرق الشاحب الحزين ، واستلهامهم موسيقى البلوز منه .


في قلب اللوحة يجلس الجد محتضناً البانجو وحفيده الصغير بإباء غير مصطنع . تستشعر الجدية والحنان في الطريقة التي يمسك بها الجد آلة البانجو ، وتستشف من استرخائه غير المتهدّل صبره وأناته . يمرّر إلى الصغير الكثير من القيم الإنسانية النبيلة ، لذا يمسك الصغير بالبانجو بتركيز وتصميم ، وتمتزج نظرته لها بالاحترام . يعزز هذا المشهد أيضاً فكرة الأب المعلم الذي يحرص على تمرير ما لديه من خبرات ومعارف إلى أجياله وتأصيل القيم العائلية فيهم .


لا ترتكز تلك اللوحة على ناحية جمالية فنية فقط ، بل تمتدّ قيمتها إلى الغوص في أعماق البشر ليظهر جوهرهم الحقيقي بعيداً عن وجودهم المادي البحت ، وهذا ما تعتمده المدرسة التعبيرية الفنية لكن على مستوىً أكثر شمولية .


ليس غريباً أن تكون تلك اللوحة مفترقاً في تاريخ الفن التشكيلي للأفارقة الأمريكيين ومصدر فخرهم واعتزازهم ، وأن يكون تانر أول رسام من أصول أفريقية يشتهر عالمياً .

نـــسّــاي

- هل لديك دقيقة يا أستاذ علي ؟
- رفع أستاذ الفيزياء الحاصل على دورة تدريبية في الإرشاد الطلابي رأسه ، ونظر مباشرة إلى الطالب الواقف بالباب وقال :
- تفضل . أدخل وأغلق الباب خلفك .
- لو سمحت لدّي مشكلة ؟
- اجلس .. أسمعك ..
- بالأمس أضعتُ مكان فصلي !!
- حسناً.... وبعد ؟
- حصل ذلك معي كثيراً .. لا أقصد أنّي أضعت مكان فصلي أكثر من مرّة ، بل أشياء أخرى .. هنا وفي المنزل أيضاً .
أخرج الأستاذ استمارة دراسة حالة من درج مكتبه ، وبدأ بالاستفسار عن معلومات بدر الأولية وتدوينها . ثمّ سأله :
- ماذا يحدث معك بالضبط ؟
- هل تلعب (الباصرة ) يا أستاذ ؟
- أحياناً .. أقصد سابقاً عندما كنتُ في مثل عمرك . لكن ما دخل هذا بما يحدث معك ؟
- عندما تمسك أوراق اللعب بيدك وتفردها بيدك مثل المروحة ،يمكنك أن تتعرف مثلاً على تسعة (الهاص ، وإكّة الديمن، وشايب السبيت) من الأشكال والأرقام في الزوايا العلوية للأوراق فقط . شكل القلب والمعيّن و .. و.. والذي يشبه ..
- المهمّ ..
- المهمّ ، ... أنا لا أقدر على فعل ذلك . أقصد معرفة كل الأوراق . أميّز الورقة الظاهرة ، والثانية ، وربما الثالثة .. لكنّ باقي الأوراق .. لا . ليست المشكلة في (الباصرة ) فقط ، لكن .. لكن في كل ما يحدث معي . أحياناً أدخل المنزل ، أضيء مصابيح الصالة ، أشغّل (التلفزيون) ، ثمّ أذهب إلى غرفتي لأنام .. لأنام بعمق . هل تفهم ما أعنيه يا أستاذ ؟
- نعم .. نعم أفهم . لكنّ لعب الورق مضيعة للوقت وعليك أن تتركه .
- (تمام ، تمام يا أستاذ) . ماذا كنتُ سأقـول ؟ آه .. تذكرت .. أتعلم مالذي حدث في حصة نشاط الحاسب الآلي الأخيرة ؟ لم ينتظر الردّ وأكملْ : لم أتمكّن من تثبيت أحد البرامج على ذاكرة الجهاز الذي استخدمه .. ظهرت ملاحظة بأنه لا يوجد مساحة على القرص أو.. أو أن الذاكرة ممتلئة على ما أعتقد ،... هذا بالضبط ما يحدث معي يا أستاذ ، بالضبط .. الكثير من المعلومات لا تدخل رأسي . تظلّ تلّف وتدور وتختلط ببعضها ..
يردّ الأستاذ تحية زميلٍ له ظهر وجهه فجأة في المستطيل الزجاجي وسط الباب . لا ينتبه بدر لليد التي أشرّت بخفّة ويسأل :
- أسبق وشاهدت قطاراً يسير يا أستاذ ؟
- لا ..
- أنا فعلت .. كان القطار متجهاً إلى الرياض وذكر أبي أنّه قطار عسكري لكنّه كان بعيداً ولم أتبين ما بداخله .. يا لله !! . كم تمنيت لو أنّ في عقلي قطاراً يسير بتلك السرعة والخفّة ولا تسقط منه الأشياء ..
تقول لي أمي عندما أفوّت أمراً ما : ( خرّفت قبل أبوك ) .. لا أريد أن أخْرَف قبل أبي ، ولا حتّى بعده ، لا أريد أن أخْـرَف على الإطلاق ..
توقف بدر لحظاتٍ ليلتقط أنفاسه ، ثم تابع :
- بالأمس يا أستاذ كــُ ..
- أعرف الذي حدث بالأمس ، أضعت مكان فصلك ..
رفرفت سبابة بدر معترضاً :
- لا لا لا لا يا أستاذ .. بالأمس وعند نهاية الدوام حدث شيء آخر ..
قاطعه الأستاذ بحدّة وقال :
- فهمت مشكلتك تماماً . أنت تعاني من نسيان متكرر بسبب الإجهاد والضغط . سيفيدك جدّاً أن تدوّن أفكارك في نوتة تحملها معك دائماً ، وأنا واثق من هذا سينشّط ذاكرتك ..
ثمّ سجّل في خانة تشخيص الحالة ( نـسّـــاي )

ضـــوء ..



رسم الفنان الأمريكي غرانت وود لوحة من واقع بيئة في ولاية ايوا ، وتمثل مشهداً ريفياً لرجلٍ عجوز وابنته العانس ..
وأثارت تلك اللوحة سخط المجتمع عليه في بداية شهرتها .. وذلك للصرامة العنيفة في ملامح الرجل وابنته وتلك الوقفة المتشنجة التي تبتعد كل البعد عن البساطة ، وتوحي بعدم الترحيب ..
وحتى المقشّة التي يمسكها الرجل .. تبدو كسلاحٍ جاهز للاستخدام لو تطفل أحدٌ ما على موطنه ، أو ابنته ..
بعد أن هدأت تلك الموجة الشرسة من الانتقادات على لوحتة .. أُعتبرت تلك العانس من أشهر ثلاث نساء خُلّدن في لوحات مدهشة .. الموناليزا ، والدة جيمس ويسلر ، و الأمريكيون الأقباط  American Gothic .


ننتقل الآن إلى Gordon Parks الأمريكي الأسود المولود في عام 1912 في كنساس . كان رجلاً متميزاً متعدد المواهب ( كاتب ، مصور ، مخرج أفلام ، موسيقي ) . ساهم بصوره الفوتوغرافية بإبراز الكثير من جوانب النضال ضد العنصرية . صورته التالية - والتي تعتبر إحدى أشهر صوره وأكثرها تأثيراً - صورها في مبنى هيئة الــ FSA . في الخلفية يظهر العلم الأمريكي ، وفي المقدمة صورة الخادمة السوداء Ella Watson التي طلب منها حمل مقشة وممسحة والوقوف بكل اعتزاز أمام العلم الأمريكي ساخراً من لوحة غرانت وود ومطلقاً عليها الاسم ذاته American Gothic .. وعلّق عليها بقوله :


Washington now had a black charwoman, standing erectly with mop "and broom before the American flag


خلاص ؟؟

لقد كنتُ فرحاً : إن هذه الأصوات التي جفت كالنباتات بين الصفحات هي لي "


كان هذا شعور جان بول سارتر في أولى لحظاته مع الكتاب . تعلٌقٌ بالحروف المطبوعة يتعمّق في كل صفحة من صفحات كتابه " الكلمات " ..
شخصٌ مثل سارتر ، كيف سيكون موقفه عندما يقرأ " أوراق الغائب " لبول شاوول ؟


كيف ستمنحه تلك الحروف المختزلة جداً متعة الذوبان مع الحروف والانسياب كلمة كلمة عبر السطور المتلاحقة ؟؟
كيف سيعلّم المقاطع المفضلّة لديه ؟؟
كيف سيقاوم الشعور المرير لكلمة( وخلااااااص ) ؟


هدف شاوول هنا أن يكون موجزاً ، دقيقاً ، ونافذاً جداً . ولا توجد هناك احتمالية لوقوع أي خطأ يسقط فراشته الرقيقة ..
لكنّه يضعنا بين دهشة من قدرته على الكبسلة ، وبين توقنا للمزيد من الحبر الجاف المرتسم حروفاً على دفتي الكتاب ...
لم نعتد على كل ذلك البياض الذي تعلق به كلماتٍ معدودة ، رغم قناعتنا بأنها كافية جداً ..


يوريكا .. يوريكا


هذا بالضبط ما أنا عليه ، ماتريوشكا ..



بقلبي أناي ، بقلبي أناي ، بقلبي أناي ، وبقلبي أناي ..


بين صفو الماء ، وغلظة الطين ، أُوحل ..

مزيداً من الضياء

العقلانية الشكلية التي يتحلّى بها المجتمع ، تخونه أحياناً في تفسير مدلول الصور الفوتوغرافية . الإنسان تقوده اللامنطقية غير الواعية إلى تلقي إشارات الأشياء وليس الأشياء نفسها . مثلاً صورة لعائلة عربية يتوسط مائدتها قنينة خمر أمر غير مقبول لدى المتلقي العربي إجمالاً لأنه ينظر لها كتصرف غير مقبول اجتماعياً ويسيئ إلى صاحبه . إذاً هو حللها بما يحمل داخله من موروث أسطوري كما قال بارت .


مثلاً ، مصورة الـ washington post الفوتوغرافية Andrea Bruce Woodall الفائزة بالمركز الثالث كأفضل مصورة صحفية للعام 2005 في أمريكا ، ركزت على الجنود الأمريكيين في العراق . لها صورة اسمها A Piece of Home تمثل مجندتين إحداهما تقرأ رسالة وصلتها والأخرى تسرح لها شعرها . نظرتنا إلى الصورة كعرب لن تكون متعاطفة أبداً في ظل ما نحمله لرفض داخلي للوجود الأمريكي في العراق ، ولن نعزل المشهد الحميمي الذي يمثل علاقة إنسانية دافئة عن رفضنا الداخلي الذي يعززه مشهد البندقية في جانب الصورة . بينما لدى شعبٍ آخر ، بمنظومة نفسية مختلفة قد يكون للصورة أثرٌ مغاير .


لو أنّك تشبهني

يذوب أملك وأنت تبحث عن أشباهك ، وتجس نبض الأرواح العابرة تباعاً علّك تجد الذات التي تطابق تكوينك . ربما لا تكون تلك المطابقة تامة في كل الأجزاء ، لكن يكفيك أن تكون في الجزء الأهم لديك . الجزء الذي يمتدّ منّك إليه ..
في قصة الكاتب الفرنسي انطوان دو سانت إكزوبري " الأمير الصغير " ، رسم المؤلف هذا الشكل :



وكتب :


عرضتُ لوحتي المفضلة على الكبار ، وسألتهم إن كان رسمي أخافهم . لكنهم أجابوا : " أخافنا ؟ كيف يخاف أحدٌ من قبعة ؟ " .



لم يكن ما رسمه قبعة ، بل كان صورة حيّة بوا تهضم فيلاً ، وخطرت له تلك الصورة عندما شاهد في طفولته صوراً عن الغابة البدائية وكان من ضمنها حيّة بوا تبتلع فريسة دون أن تمضغها .



ظلّ يعرض الرسمة على كل من ظنّه صافي الذهن ممن قابلهم ليتأكد إن كان يفهم حقّاً . وكانت الإجابة هي ذاتها : " تلك هي قبّعة "
وبعدها ، قرر أن لا يتكلم مع أي شخص عن حيّات البوا ، أو الغابات البدائية ، أو النجوم . وأن ينزل بنفسه إلى مستواهم . سيكلمهم عن لعبة ورق البريدج ، والغولف ، والسياسة ، وربطات العنق . ولسوف يكونون مسرورين جداً لأنهم التقوا مثل هذا الشخص المعقول .


هاجسك في بحثك عن الآخر الذي يشبهك ، قد تصادفه الكثير من المعوقات التي تكون أنت ، أو هم سبباً فيها .أهم المعوقات التي تتسبب أنت فيها ؛ أّنّك قد تعلق في نمطية تصوراتك عن الآخرين ، والصور المقولبة الجاهزة في ذهنك لهم . وقد تحتاج لـمدام دوستال * جديدة لتحفر أساساً لــ imagology - الصورولوجي - في عقلك ، وتمكنك من النظر للآخرين بحيادية مطلقة .


* ألفت في عام 1810م كتاباً عن ألمانيا دافعت به عن الألمان ، محاولةٍ محو الفكرة السلبية التي كونها الفرنسيون عنهم .

بين ضرسـيـن

جلستُ على كرسيٍ مقابل مكتب السكرتيرة ، يفصلني عنها ثلاث طاولات متداخلة بتدرّج ، يحتل سطح الأكبر بينها " ترموس" قهوة مثلث الشكل ، وصحنٌ معدني مزخرف الحواف . صبّت لي فنجان قهوة ، وقدّمت لي صحن المعمول المعدني . تناولتُ فنجان القهوة ، ونقلته لليد اليسرى لأعاود التقاط قطعة معمول .
ابتسامتها لم تفلح في تمديد الجزء السفلي من وجهها ، وبدا مثلثاً أصغر قليلاً من" ترموس" القهوة . استقرّتْ على مكتبها ، وأنا قضمتُ قطعة المعمول .. مضغتها بتأنٍ وابتلعتها ، ورشفتُ القهوة ساخنة ..
تحرّك لساني مبعداً بقايا الطعام عن أسناني .. لكن ، آه .. لا .. لا يمكن أن يحدث ذلك !! ليس الآن !!
علقتْ قطعة سمسم بين الضرسين العلويين في نهاية الجهة اليمنى من فكّي . أعرف تلك النكهة جيداً ولا يمكن أن أخطئها .. تلك الحبّات اللعينة التي تستقرّ دوماً في ذات المكان ..
رفعتُ القطعة المتبقية من المعمول بضيق لأعرف أين اختبأت حبّات السمسم !! .. لم يرشّوها على السطح حتّى لا أراها ، وإنما دسّوا بعضها في الحشوة بكل خبث .
لساني لا يهدأ في محاولة نزع قطعة السمسم ، ودوائر قلق تتداخل في رأسي .. إن لم تخرج حبّة السمسم حالاً ، سيظل لساني ملتصقاً في فكّي العلوي عندما أدخل إلى المديرة بعد قليل . ستتعجّب من تلعثمي ، وتمتمتي بكلماتٍ لا معنى لها تندسّ بخجلٍ في الأدراج نصف المفتوحة ، بين شرائح الستارة المتهدّلة ، ووسط الملفات المرصوصة .. ستستهجن صوت انفلات لساني الذي سيشفط ويشفط بلا يأس .. وستشعر بالقرف عندما أنشغل عن أسئلتها برفع جانب شفتي العلوية بإبهامي لأخرج تلك القطعة العنيدة .. وعندها ، ستعتذر بتهذيب لاختيارهم متقدمةٍ أخرى للتدريب على استخدام الحاسب الآلي في معهدهم .
فتحتُ حقيبتي بحثاً عن أي طرفٍ حاد . تركتُ هاتفي الجوّال ، ورفعتُ قلماً يعبّاً بأعواد رصاصٍ اسطوانية من المقاس 0.7 .. زفرتُ بسخط ، وتركته يسقط إلى عمق الحقيبة .. فلم أشأ أن انتهى بمشكلتين ؛ قطعة سمسم ، وكسرة رصاص في فمي .
أكره أن يعلق شيءٌ بين أسناني ، خصوصاً حبّات السمسم . أنشغل دائماً بتلك التفاصيل الصغيرة ولم أتمكن يوماً من تجاهلها . أحمد ، الذي يزور غرفتي أحياناً ، يقول : عندما أرى مجلّة أوراقها مقطوعة الزوايا ، أو علبة مناديل منزوعة البلاستيك ، أعرف أنّكِ مررتِ بها .
بنظرة سريعة مسحتُ الغرفة ، وشاهدتُ علبة مناديل على حافة المكتب . اقتربتُ لآخذ العلبة ، ولخيبتي الشديدة ، كانت من النوع الرخيص الثمن ، الذي لا يضعون فيه بطانة بلاستيكية تحت غطائه الكرتوني القابل للنزع . ريالان حرماني من التلذّذ بمط البلاستيك ، وإدخاله بين ضرسيّ ، وسحبه لتخرج معه قطعة السمسم .. ريالان فقط .
عدتُ بتثاقل وتراخيت على الكرسي . لساني لا يزال يعبث في فمي ، وأصابعي المقلّمة الأظافر تتناوب في محاولاتها ، وصوتُ انفلات لساني يتكرّر ، والدوائر القلقة تتنامى وتتسارع في عقلي .
دخلتْ ذات الوجه المثلّث على المديرة لتعود بعد دقيقة وتعلن أنّ الوظيفة لم تعد شاغرة ، وتعتذر عن ضياع وقتي .. ضاق وجهها المثلّث بنفاد صبر وهي تقترب من باب الخروج ..
لم أتحرّك .. بقيتُ ساكنة وأنا على يقينٍ من أنّ لقطعة السمسم اللعينة يداً في ذلك القرار وسألتها بجديّة :
- هل لديكِ عود أسنان ؟؟

عندما تنتعلهم الأحذية


" قَرَّرَ أَنْ يَرْتَقِيَ مِنَ إِسْكافِيٍّ إلى حَذَّاءٍ"
- حنا مينه


بدرية :
تنتعل حذاءً يضغط على قدمها الممتلئة ، وترى ظاهر قدمها متكوّماً ببروز . أعرف وقع خطواتها المتأنية والتي تتكتك برتمٍ متناغمٍ على الأرضية الصقيلة .. تتعمّد لبس تنانيرٍ تميل للقصر ، ليظهر كعب الحذاء النحيل جداً ، والمترّنح تحت ثقلها . تستمدّ إحساساً بالخفّة من الكعب الرشيق ، وتنتشي بالتكتكة التي توحي بالأنوثة والغنج.


حنان :
تمشي في الحذاء ، هذا بالضبط ما أشعر به عندما تدخل . تكره ما يقيّد حركتها ، والأحذية تدخل ضمن ذلك النطاق . روح تلك المرأة عظيمة لا يسعها إلا الأحذية الضخمة جداً .. تقول : لا يمكن أن أشتري حذاءً لا أستطيع تحريك أصابع قدمي فيه .. أختنق ، أختنق !


هدى :
حذاؤها يشي بلؤمها . تجلس وهي تضع رجلها اليمنى فوق اليسرى .. ويواجهني لسانها الأسود الذي استطال متهدلاً من فمها ، حتى قدمها .. تتحدث والحذاء المدبب الرأس يتماهى مع ما تقول . ترتفع مقدمته بحدّة ، يميل لليسار بتهديدٍ صارم ، ويهتزّ بانفعال مربك .


بسمة :
عندما كانت صغيرة ، ارتدت حذاءها الرياضي بسرعة واحتكت أصابع قدمها بخنفساء كبيرة أغراها سبب ما للنوم هناك .. منذ ذلك الحين وهي تحتفظ بأحذيتها في دولابٍ مخصص للأحذية خارج غرفة نومها ، وتحرص على انتقاء الصنادل المفتوحة التي لا تجتذب الخنافس .. حتّى عندما تتكثّف الأنفاس على زجاج النوافذ من شدّة البرودة ، تظل عينا صندلها مفتوحتين .. تنتعل الحذاء ، ولا ينتعلها.


هيفاء :تحذي قدميها حتّى لا يقال أنّها تسير حافية ، تنتعل مداساً خفيضاً شرقي التصميم . تحب أن تبقى قريبة من الأرض . دائماً تزيل الملصقة البلاستيكية الشفافة التي تحمل ماركة الحذاء ، ويلتصق عقب قدمها ببقية الغراء .. تخطو بطرطقة مزعجة لا يبدو أنها تسمعها .عندما ترتدي البلادة مداساً ، تكون هيفاء .

ضفيرة مقلوبة


أنت أنانيّ . عندما نركب ذات العربة ، وتهزّنا بذات الطريقة ، دائماً تصل ولا أصل ، هذا بالضبط ما قلته له ..


بعد عبارتها الملغومة تلك ، انكمشت والدتها ، واقتربت أكثر من الأرض تجلّلها دعواتها بالستر ، وثار والدها فازداد طولاً

صرخ بها والدها :
- تستحقين والله أن يرميكِ زوجكِ بعد ما قلتيه له ، يا عديمة الحياء ..


الصفعة المشتعلة التي تلقّتها سميرة من والدها بعد ذلك ، أوصلتها لمنتصف الصالة . لم تسقط ، ولم تتوقف ، بل جرت إلى غرفتها السابقة تاركةٍ المكان وراءها يطفو فوق الدموع المالحة لوالدتها وأختها الصغرى ، ثمّ اختبأت في السرير
طالما اعتبرتها والدتها ( وسيعة وجه ) . تربّصت بها هاتان الكلمتان لمّا كانت تفتح نافذتها المكشوفة للجيران ويصدر عنها صرير مزعج ، في إطباقها المفاجئ لسماعة الهاتف عندما يباغتها أحد وهي تهمس ، في النكت البذيئة التي تخبرها لأختها الصغرى وهي تضفر لها شعرها ضفيرة مقلوبة تحبها كثيراً ، في سلامها الطافح بالسكّر على أبناء عمومتها ، وحتّى حين نتفت لها بتول السودانية شعر أطرافها (بالحلاوة) قبل زفــافها ، ولم تمانع في حسر ردائها عن مناطق حساسة من جسمها لإزالة الشعر منها


لم تكشف لأحدٍ سر ولعها بسدّ كل الثقوب في المنزل ، ولا إدمانها إدخال المفاتيح في الأبواب ، ولا حرصها على وضع الأغطية البلاستيكية على (أفياش) الكهرباء . كانت تبرر ذلك بعد إلحاحٍ متواصلٍ من أختها لمعرفة السبب ، بأنّ كل الفتحات تحتاج للدفء، بعد زواجها ازداد هوسها بسدّ الثقوب ، لكنّ ثقب روحها تعاظم اتساعاً . انكمشت واقتربت من الأرض ، واستطالت قامة زوجها أكثر; بقيت متكورةٍ في فراشها والجدران تقترب وتقترب لتصهرها ، وتقلّص السعة في وجهها ، وروحها ، وآمالها . وأيقنت أنها لن تتوقف حتّى تطبق على أنفاسها يوماً
فتحت أختها الباب فجأة فأوقف ذلك الجدران عن التقدّم . جلست على طرف السرير وهي تتأمل وجه سميرة المدعوك بالأسى و قالت لها:
- عندما نركب ذات العربة ، وتهزّنا بذات الطريقة ، دائماً تصل ، ولا أصل .. ماذا يعني ذلك ؟


- يعني أنّكِ لن تحظي بضفيرة مقلوبة بعد الآن .

حـــــامـــد



وقف أمام منزل المرحوم حامد ؛ الرجل الأربعيني الذي فقد حياته في حادث سير شنيع منذ أسبوع . دقّ الجرس ، فأجابه صوت أنثوي فاتر :


- نعم!!
- أنا سعيد الذي حدّثتكِ بالأمس ، هل يمكن أن أطرح عليكِ بعض الأسئلة ؟
أجابته بنبرة هادئة:
- سأفتح الباب حالاً..


عرف سعيد أثناء عمله الصحفي كيف يلعب جيداً على وتر التعاطف مع ضحايا حوادث السير العنيفة بحكاية قصيرة عن حياة الضحية الهانئة ، أو صورة باسمة له مع أولاده ، لذا زار الشركة التي كان يعمل بها حامد بحثاً عن تفاصيل أكثر حول الرجل الذي شوّهه بالكامل حريقٌ تبـِع الحادث ، لكنّه لم ينل إلا عباراتٍ قاتمة مثل " كان بعيداً جداً .. لم نكن نلحظ وجوده ، .. ولم يلحظنا " و " كان يعمل بصمتٍ تام .. ولا يرفع رأسه أبداً " . أثاره هذا الغموض وجعله يقرّر مقابلة زوجته بنفسه ، فربما حصل منها على معلوماتٍ أدقّ.


سمع صرير الباب ، وظهرت خلفه امرأة تتجلل بالسواد . وقفت وقفة ساكنة غير مرحبة ، واضطر أن يحدثها من خلف الباب


- أعتذر إن أثرت الذكريات الحزينة بعد أن خمدت ، لكنّي أحتاج لبعض ..


قاطعته بلا انفعال
- لا عليك .. اسأل فقط
استشعر عدم حماسها للأمر ، وقرر أن لا يضيّع الوقت ويسألها مباشرة عمّا يشغل ذهنه ..
- كيف كان شكل المرحوم حامد ؟
- كان أسمراً ، ناحلاً ، متوسط الطول ، ثمّ أضافت بعد فترة صمت ... وكان يسير .. يسير دائماً دون أن يلتفت ..
- ماذا عن وجهه ؟
- كان بيضاوياً بشفتين دقيقتين يعلوهما شاربٌ خفيف ، وأنفٌ طويل مستدق .
- وعينيه ؟
- عيناه!!
- نعم ... اتساعهما ، لونهما ، نظراتهما ؟
ردّت بعد تفكير عميق
- أذكر شكله جيّداً ، لكن لا أذكر أنّ له عينين !


أثار ردّها الغريب حيرته ، وفكّر أنّها اللحظة المناسبة ليطلب ما جاء فعلاً من أجله
- هلاّ بحثتِ عن صورة ٍ له .... من فضلك ؟ نطق الكلمتين الأخيرتين بتوجّسٍ وعلى مهل
همهمت بعد تردد:
- سأبحث في أدراجه
سمع صوت خطواتها مبتعدة، وأمل كثيراً أن يشاهد صورةً لحامد الذي لا يلحظ أحد، ولا يرفع رأسه، ويسير .. يسير دائماً دون أن يلتفت . لم تبقهِ منتظراً لفترةٍ طويلة .. عادت وتكلّمت قبل أن يسألها ..


- كانت له عينان .


ابتهج لنبرة الثقة في صوتها ..


- هل وجدتِ صورةٍ له ؟
- لا .... لكنّي وجدت نظارته .

لا ذاكرة للماء..



أنا وأنا فقط . كلاعب سكواش يحاور جداراً . في عراء الكلام المنخفض السقف .



كم أكره المصاعد الضيّقة ! وفوزية حين تفرّ من إحساسها بالألم إلى دولاب الملابس ! وأكشاك التصوير الذاتية الشبيهة بالتوابيت . كم أكره الأماكن التي تقترب لتخنق ثرثرتي .. أكره كل مكان يحصرني معي ..


أتمنّى لو ألعب الــ بينق بونق مع شخصٍ ما ..
أخبره كم كان فيلم (آنجيلاز آشز) دافئاً رغم أجوائه المبتلّة ، وآسراً رغم لون الرماد الذي وحّد لقطاته ، وكم كانت المشاهد تتوالى براحة تامة مكنتني من التقاط كامل التفاصيل ، فيضرب كرة البينق بونق في وجهي مباشرة : " لكن الكآبة ورائحة البول المختلط بالمطر أشعراني بالغثيان


أخبره أن أصحاب العيون التي تنتهي بانحراف ناعمٍ في زواياها ، يحملون تلك النزعة الملائكية التي تجعلهم لا يكبرون أبدأ. تظلّ الضحكات ترقص في ذلك الانحناء للمآقي البريئة ، مثل فُضيل الشاب الطفل، فيتلقف الكرة بقبضته اليسرى ويسبل عينيه ويرد بخجلٍ مضحك : " الله يسلمك "
أخبره أنّي أشكّ كثيراً في أنّ أغنية ( تو النهار توّه ) هي للجميري بالأصل . فيضرب الكرة بلا ثبات
" ربما لم تكن له .. لكنّه بالتأكيد كان غامراً في أدائها ، ويردد بنظرة ساهمة ( ما يندرى فـ باكر .. لتسمح ظروفك وعيوني بتشوفك ) "
أخبره أنّي البارحة فزعت من اضطرابٍ تكرر في خفقات قلبي . فيضرب الكرة بخبث إلى أقصى زاوية في اليسار .


" وهل لديكِ قلب ؟؟؟ "
أخبره أنه كنوء سعد السعود ، إذا طلع ذاب كل جمود ، وانتشر كل مصرود . فيضرب الكرة بحنوّ بالغ ..


" وأنتِ سعد الذابح .. "
أخبره كم أحتاج إليه لألعب الـ بينق بونق .. لأفوز وأبكي ..

Moods



في امتداد نِجاد جسدها ، تبعثرت رغبة جامحة في أن تنزع ذيل


الطاووس لتعلموا جميعاً أنّه نصف دائرة من أعواد القشّ الملوّنة


----------------------------------



مزاجٌ حاسدٌ لـــ


• من يخرج من نار العشق معافاً كـــنبي .
• من يعلّـــق أحزانه على أعلى امتدادٍ في المدينة ويمضي بخفّـة .
• من يملك قلباً بارداً كالفضّــة .
• فيروز حين تغنّـــي بلا مبالاة ..
لو بعرف حبيبي بتفكــّر في مين
• من يرمي مخاوفه في علبة خشبية صدئة المفاصل ، ويتركها نصف مغلقة وينام بعمق


• من يخرج من "المُولِـــد " النسوي بأكبر عدد من البسمات ، والغمزات ، والأثداء المجانيّــة والمعفيّــة من الضرائب


----------------------------------


I'm not in the mood I'm not in the mood
I'm not in the mood To be shy
to stand by--and not give it a try
No, I'm not in the mood
I'm not in the mood To stay home
be alone--face the night on my own
No, I'm not in the mood to say
to say--(to say)--to say no

الآخـَـــر



كانت الأشياء ملء يدي . الأشياء التي تبقى ظاهرة حتّى بعد مغيب الشمس . تظلّ حدودها واضحة بيضاء مشرقة تشبه صفاء المغفرة ..
وعندما أعشب ربيع عمري ، اكتحلتْ .. وأخذ الليل يسفّ دلمته من كحل عيني ، وأمكن للشمس أن تخبئ الدنيا خلف رعافها النازف كل ليلة ..


يوماً ، ظهر الآخَر في آخِر زرقة قبل حلول المساء ..
أخَرٌ يعيش في ظلمة قَدَري ، يتلّقى الصفعة عندما تخطئني ، يبكي عندما أفوز ، يستيقظ حين أنام .. وحين استرخي ، يرتجف من غلواء دمه .
آخَرٌ يحصل دائماً على قناع الوجه الحزين عندما تتمسرح الحياة ، وعلى أدوارٍ هامشية صعبة ومنسيّة ..
أخَرٌ يربطني به خط متعة تصل أعلى مؤشراته عندي ، وينخفض نزولاً باتجاهه ..
أخَرٌ يبقى مأسوراً لوهج "زئبق الطاسة " *الفضّي علّه يعكس صورة الذي يسرق منه فرحته كل مرّة ..
كلماته قليلة مبعثرة ، وصمته ترجمة للفراغات في رأسه كــ " كريم " في رواية "مريم الحكايا " ، وتبرّمه الواضح لا يتسبب بأدنى وخز للضمير لأنه " مقرود" ، ولأن هذا هو نصيبه .


عندما جمعنا أفقٌ نازف ، أنا والآخَر ، تقاطر بيننا زمنٌ غاضب . وانهدّ جدار الصمت ليسيل صوته ثقيلاً لزجاً رماديّ النبرة ..


ـــ لـمَ اكتـحلـتِ ، لـمَ ؟


*  يستخدمها السحرة والمشعوذون لكشف المستور  .

بشرٌ من ورق


تكون أمامك ورقة ممتدة البياض ، عادية لا تلفت انتباه أحد . تحمل مقصاً بعد أن تفقأ عينيه .. وتثني الورقة .. وبعد عملية قصّ مدروسة ، تخرج بصفّ من الناس المتعاضدين . هذه ببساطة تقنية القصقصة ..


عندما تفّكر باحتواء تمرّد العشب ، تفكر بالقصقصة . وهي تخطر على بالك عندما تتأذى من أظافرك الطويلة ، من شعرك غير المرتب ، من نسالة الأقمشة . وهي تهديدٌ تطلقه عندما تعاني في " منطقتك " من طول ألسنة أو ريش البعض..


إذاً ، هي ردة فعل قمعية لكل ما يهدّد أمنك بشكل أو بآخر.. لكن هذا الممارسة تصبح سمّة عالقة بكل تصرفاتنا بدون وعي منّا .. فحين تفكر ، لابد لك من رصد مفارز تفتيش تقصقص كل الزوائد غير المرغوب فيها قبل عرض فكرتك على الملأ .. وحين تكتب ، يكون التنقيح – أو التحرير على مستوى المنتديات – عملية قصقصة . والمشرف يقوم بقصقصة الزوائد اللفظية والترهلات التي تشوّه الموضوع ..
وعلى مستوى أعلى للسُلطات ، يقوم كل مسئول بقصقصة رؤى رعيّته لتتطابق مع رؤيته ..


إذاً .. نخلص إلى أنك بالقصقصة ، ستحصل على بشرٍ من ورق ..


قصقص ورق و ساويهن ناس ، قصقص ورق على اسم الناس
سميهن بأساميهن و حاكيهن بصيروا ناس


- الأخوين رحباني .

لم أكن عدميّة بشكلٍ كافٍ

لا أهطل كمطرِ كلماتِ الجرائد
كثيفةً ومتلاحقة
لا نسغاً ينساب كريماً من منابتي
لا عتمةً تُعتقُ بهبة من الضياء
خلعتْ السماءُ ثوبَ النجومِ ولـفّتني كمشيمةٍ خانقة


لم أكن عدمية بشكلٍ كافٍ


لم أكن عدمية بشكلٍ كافٍ


لم أكن عدمية بشكلٍ كافٍ


---------------------

وقتٌ لـــــ

- وقتٌ للقلق -

-----

لا تقلق


كل ماهنالك ..
أنّ الجدران استطالت واهبةً نفسها للظـل
وأنّ البسمات المرحبّة ، رحلت لتسكن الملصقات الدعائية
وأنّ فضة القمر أفلت ، لتغازل جِيد فتاةً في الطرف الآخر من الكون
وأنّ البحر تعب من دلق خليجه ، وقرّر ابتلاعه ..


-----------


- وقتٌ للشوق -


نفضه الليل من جيوبه ، وأسرع يتهندم للقائها
بحث عن فردة حذائه تحت كل القوائم التي في شقته ، وفوق كل كتفٍ مسترخٍ منذ سنين ،


تنهّد ، .... قايضته الدقائق على ما تبقى من الوعد ، خلع الفردة الأخرى ..


انتعله الشوق وخرج ..



------------------


- وقتٌ للثورة -


آتيها خالصة من دنياي ، كفجرٍ يضيء وجه الأماكن..
أتعثّر بكذباتي الصغيرة ، والــ " عيب " التي تسجن خاصرتي كزنّار ..
أتمدد كعلّيق على وجهها الذي يشعّ بهجة بي ، وأعانق " مثنّاي " ، ونسيل ..



--------------


وقتٌ لـلتشكـّـل


عندما تتساقط الأنوف من السماء ، اختر لي أنفاً دقيقاً متوسط الطول. واسندني على جدارٍ كسول - كي اتجنب إحراج كوني بلا ظل - ثمّ لفّ عليّ وشاحاً منقوعاً بدماء الخريف ، وثبّته بـ" بروش " على شكل جعل فرعوني مقدّس ، يزيدني فخامة ... وابحث في ذاكرة القاعة عن طيوفٍ وقورة لنساءٍ فاضلات يهربن من ضوضاء الألوان .. واسكب تاريخهن الطاهر في ملامحي .. وأعدك أن لا أسقط قبل أن تنتهي من خطابك .

قصصٌ مالحة



------



بين الشقوق ، قصصٌ مالحة..


كنّا نقترب من الجدار الذي يهبه " الدينمو " نبض الحياة . وكانت الشقوق المتكلّسة ، صناديق حكايا متراكمة على جبين ميناء ، وكان نسيجها المتآلف هبة الماء .. في كل مرة ، تمتد أذرع الشقوق الغضّة في نداءٍ للحياة مبللٍ بالخجل ..
يصطدم رأسانا ونحن نحاول رصد هيكلٍ متعرّج لمستوطنٍ جديد .. ونكاد نؤمن أن القبيلة التي لا ظلّ لأهلها ، ستموج بالحركة ويعلو ضجيجها .
في الجهة اليمنى من الجدار ، لمحتُ تصدّعاً جديداً يشبه طفلاً ماداً ذراعيه . وكان الصدأ يعلو القشرة التي ما زالت منتفخة فوق كتفيه ، ولم تجفّ بعد لتكوّن رأساً محدد المعالم ... قالت لي ضاحكة :
- لا تلمسينه .. هذا توه مولود ومابعد غسلوه
نظرتْ إلى ذراعيه وعلّقت:
- لا وأمه بعد ما شربت حليب .. شوفي ايدينه كنها سلوك


انفجرنا بضحكٍ لم يتجذّر في تلك الأراضي المالحة ..

فالصو

" أبا آذان ، اللي يتفرّش إذن ، ويتغطّـى بإذن "
" أبا آذان " .. ثابتة النصب في وجه المتغيرات النحوية .
كنت أعشق تلك القصة من والدتي رغم الأرق الذي غرسته بين أجفاني ، ورغم المقطع الذي يتجلى فيه آداء " أبا آذان " بحرفنة أسطورية حين يردد بثقة مطلقة" أشـــمّ ريـــح إنْــس " عند اقتحام الأخ الطمّاع قصره المنيف لسرقة جنيهات الذهب
ظلّت تلك الجملة تطاردني شهوراً طويلة ، و " أبا آذان " الذي يتمتع بحاسة شمّ خارقة ، يقطع " الإرتداد " جيئة وذهاباً .. ويتوقف وقفة مشكّكة تحت نافذة غرفتي في الدور الأول . حاولت أن أطبّق مبدأ العقل يغلب القوة ، " برطــغ " شعري بزيت النارجيل الذي سيتوّه أنف " أبا آذان " .. وانتهيت إلى مستنقعات نارجيل تتوسط كل مخدات المنزل - حتى مخدات صباح الخير التراثية - وتسببت لليسوعية " سلين " التي كانت تقسم بعظمة زيت بالنارجيل بصبأ أبدي به .. بعد أن لاحقتها رائحته في كل ركن.
تراجعت سطوة " أشمّ ريح إنْـس " أمام الوحوش التقنيّة ، حتى وصلت للمرحلة التي قلت فيها لـــ " أبا آذان " : روّقـــنــا يا شــــيـــخ .. ترى يمدحون مراتب سليب هاي


ومثل سباق التتابع ، حان دوري لنقل ذلك الموروث الشعبي النادر إلى الجيل الجديد . وحاولت - لتيقّـني من أن السيناريو المرصود للقصة يفوق قدراتي - أن أُخرج الأحداث بأكبر كميّة ممكنة من المؤثرات الصوتية والبصرية ..
وكما هو متوقع ، كانت القصّة مثل شاحنة أفغانية عظيمة الهيكل ، ساذجة " الزبرقة " ، وظهرتْ طفولية وبمفردات " ترقل " مثل ( كذا - زي - هرب ) . قُــتلت روح " أبا آذان " المهيبة ، وصار ممثلاً..هزلياً من الدرجة الثانية في نسخة كوميدية للقصة تماماً كما فعلوا بـفيلم


" scream "


ونام الجيل الجديد في تلك الليلة قرير العين ، بعد أن اغرورقت مآقيهم بالدمع جرّاء الضحك ..


اللاطمأنينة

أحاول رصّ الكثير من الثوابت الروحية في فراغي الراقد ببلادة لتتشكل له هيئة عمودية بين غلالتي شموخ مصطنع ، واستقيم بثباتٍ حتى لا أكون الساقطة الوحيدة من شخوص البولينغ ، وآخر ما آراه قبل سقوطي ، خيبة الرامي الممتدة بطول الممر الفاصل بيننا .
في النهار الأعمى ، يباغتني المزاج اللعين كدمية اللعبة النبّاضة . يشق جبيني ضوء ساطعٌ متخمٌ بالرغبات التسلوية ، وتسيل الأهواء الشيطانية -التي كانت مضمومة كباكورة - من رأسي .
أخلع رأسي وألوح به كآخر عقبة كأداء تفصلني عن الجنون . وبقلبٍ ينزّ حموضة ، ابتسم باستخفاف ..
"من ليس معي ، هو عدوي . ومن معي ، يزعجني" * . تنشب حرب أهلية بين شطري ، الشطر الذي معي ، والشطر الذي يزعجني . أدور بكلـّـيتي الملتهبة في دوامة حول ثقبٍ هائل من هباء ، وقبل أن تسقط علي سماء الغشية، أرفعها بسبباتي ، وأعيد لصق أشلائي من الذاكرة التي أصابها التلبّك ، وتقيأتْ مافيها من صورٍ ممسوخة ..
لم يجمع الناس على إله ، ولم يتوحدوا في ذاكرة جماعية ، ولن يتذكروني .. ولا أتذكرني ..


* أنسي الحاج


-------------------------------------



تتوجس من تلك الأحاسيس المنمنمة ، و تتشابك داخلك الوساوس حول ما تشتهيه كدغـــل هائل ، وتتعلّق مقلوباً في بندولٍ يتأرجح بين نعمٍ ولا ، بين فجور وطهر ، بين ظلمة وعتمة .. تتأرجح لأن البياض أقصى اليمين كان ناصعاً جداً ، والسواد أقصى اليسار كان حالكاً جداً .. تترنح مقلوباً لأنك لا تدري هل يجب أن تفعل ما تريد ، أم أن تريد ما تفعل ؟


رأيت كل شئ
و أعجبت بكل شئ
لكن كل شئ كان إمّا زائداً علي ما أريد
أو أقل مما أريد
لا أدري كيف!؟
و هكذا تعذّبت


- فرناندو بيسوا


-------------------------




عندما تشتّد عتمة أيامك ، وتجفّ أوديتك ، وتتشابك على جوانبها عروق الحنظل ، تشرع بوابتك للأصحاب .. فيدخلون من الرتاج ..تتمنى لو أنّ بطون استفهاماتهم حبلى باللهفة والخوف الحقيقي عليك .
تتمنى لو جاءتك تساؤلاتهم بعجل متعثرة بقلقها ، منشغلة بك عن (أكواد ) زينتها . أسئلتهم مجوّفة ، وخالية من نبرة الاهتمام الصادقة ، فهي كالصمت .. فارغة تماماً . لا يريدون حقّاً أن يعرفوا سبب التعب الذي يثقل كاهل حروفك ، ويجعلها متراخية لا تقوى على حمل شـدّاتها ..
أو يريدون معرفته شريطة أن لا يكون تعباً ناضجاً جداً .. طريقتهم في السؤال عمّا يحزنك ، وشراء (الحبحب) هي ذاتها ، أن يكون على السكيّن .


.

النفق لإرنستو ساباتو


" سـأكتفي بالقول إني [خوان بابــــلو كاستيل]، الرسام الذي قـتـــل [ماريا إيريــــبارني ]. "


بدأت المساومة بيني وبين كاستيل منذ أول صفحة في الرواية ، تحصّـنتُ بما لدي من تنـظـيم فكري ، واستعان بما لديه من عبث ، وأبى أن يخـضع أحدنا للآخر ..


في سنة 1946 ، وفي قاعة الربيع ، عرض كاستيل لوحة أمـومـة ، التي يبدو في أعلاها من جهة اليسار ، وعبر نافذة صغـيرة ، شاطئ منــعزل وامرأة تنظر إلى البحر كأنها تنـتظر شيئاً ما . منظر يوحي بوحدة قـلقــة ومطـلـقة كما عبّر عنها كاستيل بنـفسه . كاد أن يفكـك تلاحم دفاعـاتي عندما قرأتُ مفـردة الوحـدة ، وعندما ضخمّت صفة الغـربة الروحية ، وأصابت الرحمة ذهـني بالخدر .
وازداد خدري الذهــني توسّعاً عندما كان الرواد ينـظرون إلى المنظر عبر النافـذة كأنهم أمام شيء ثانوي ، أو زخرفي ، باستـثناء شخص واحد ، فـتـاة مجهولة استغـرقها تأمل النافــذة وقتاً طويلاً صرفها عن العالم بأسره : ماريــا
ظل هذا الرسام يسلسل تأويلاته المربكة صفحة بعد صفحة ، مهمّــشاً حضوري كقارئة نموذجـية ، ومـغلـقاً جميع المنـافذ أمام أي تفاعل طبيعي متبادل . يفعــل كما فعل الحكيم* في القـصة الـشـرقية الشائعة، عندما سئل عن معنى الحياة، أجاب:الحياة نافـورة . ولما سئل من جديد: ولماذا هي نافورة ؟ ، رد قــائلا: وإن شئت، فهي ليست نافورة ، يتركك في يقـين ملـفوفٍ بالشكّ .
كل نصٍ قابل للعـــطب ، ولحظة العطب هي التي تمنحـنا حصـتنا في التفكير . حصتنا في أن نقول للنص ، كما قـال لنا . انتهت الرواية وأنا انتظر اللحظة التي أتمكن فيها تشـذير النص ، وتـمزيق تلك الكينونة المشوهة ، و المتشكلة من تعامدات خطوط كاستيل الأفـقـية والتي يقـتحم فيها بكل تصمــيم رؤيــتي المنـطقـية ، وخـطوط رفضي العمـودية لطبيعته المصابة بخـللٍ في عمـلية التواصل مع البشر ، خصوصاً مع المخلوقـة الوحيدة التي فهمتْ رسومه ..


يقول هنري جيمس : كل مُــــؤلِّـف يمكن أن يبتكر قارئه بنفس الطريقة التي يبــتكر بها شخصياته ، و إرنســـتو سـابــاتو كتب روايته " النــفــق " بنيـّة مسـبقـــة لقـارئ مفـترض ، وكنتُ القــارئ الـذي خطط إرنســتو لإربـاكه ..


* ذكرها حسين نجمي في مقال له