الخميس، 6 مارس 2008

عفنٌ مذهّـب ..



في ظهيرة أنعشها الدفء على غير العادة ملأتْ جيوب الوقت بالكلام . تحدّثتْ مطوّلاً عن منزلها الجديد بتصميمه المدهش ، وتكامله الفريد


كان كل ما فيها يتحدّث . البريق في زوايا عينيها ، فتحتا أنفها المتسعتان بانفعال ، سبّابتاها اللتان رسمتا تخطيطاً وهمياً متداخلاً للحجرات والنوافذ والأبواب ، وفمها الذي لا تبتلّ داخله الكلمات .
اختلط هواء الغرفة بغبار بيوت ( العظم ) الخانق ، ومرّ الوقت مترنّحاً مخنوقاً وأنا متورطة بالإيماءات الباردة المتتالية ..
يا ربّ الكلمات دعها تصمت !!
جاهدتُ طوال الوقت لأتعلّق بأهداب عينيها وهي تتكلم ، وغالبت رغبة عميقة لأعدّ أثاث الغرفة ، الأقلام على المكاتب ، شرائح الستارة الخشبية – وسيلتي المعتادة للهروب من الأحاديث الباهتة .
انتهتْ من ( التلييص ) والسباكة والدهان ووصلتْ إلى الديكورات . وفي لحظة شاء الله أن تضلّ قافلة الضجر طريقها ، ذكرتْ الـجبس الأخضرالمذهّب .
كان للكلمة وقع مباغت ... يشبه انغراز كعب حذائي الدقيق بين صفائح معدنية طولية مثبّتة أمام باب البنك الزجاجي قبل أيام .
يالله !! لم يكن ينقصني في هذه الظهيرة الرمادية إلا أمرٌ يعتمد على ذاكرتي المعطوبة !!
جبس أخضر مذهّب ، وبدأت الذاكرة تجرش أعوامها بتثاقل . غابت نوال من أمامي ، وطغى على صوتها الحادّ ضجيج النّساء في مجلس الحريم . وقفتُ ببابه طفلة صغيرة تعلّقت عيناها بالسقف . وأدرك تماماً أني كنتُ صغيرة حينها لأن مقبض الباب دخل في فتحة بين أزارير بلوزتي الخلفية وقطع أحدها عندما تحركت .
لا أذكر الوجوه ، ولا الأسماء ، ولا الأصوات ، ولا أعلم لمَ كنتُ في ذلك المكان ومع من . كل ما اختزنته الذاكرة سقفٌ مزيّن بالجبس المحفور بأشكال هندسية في وسطه ، وفروعٌ مورقة على الحوافّ . كان اللون الأخضر مبتذلٌ جداً ، ولم يوحِ بطيبة الخضرة ولا بدفئها . وكان فوضوياً يخرج من حدود الأغصان ، ويقف قبل أن يصل لزوايا الأوراق . وبلغت البهرجة ذروتها بذلك التذهيب الصارخ اللجوج ..
كان ذلك السقف مزركشاً بشكلٍ مفرط ، وحدّقت طويلاً في تلك الخيانة العلنية للذوق حتّى نسيتُ ما عداها ..
ومنذ الظهيرة وأنا في انتظار ما لا يأتي من الوجوه والأصوات والأسماء ..


.


هناك 4 تعليقات:

  1. أجملُ تمازج رأيته بين الأخضر والذهبي هو زخرفات أسقف بعض المساجد بالقاهرة القديمة، لا أذكر اسم المسجد الآن، لكن أخضره كان رائعاً، ويفوحُ بالمعنى.

    فيما سوى ذلك، أكره الأساليب المعتادة، والوصفات الديكورية الجاهزة من مُهندسي الديكور، وأكره النساء اللواتي يستبدلن الستائر كل عام تبعاً للموضة، وتعرفي أيضاً، أكره ذلك السقف الذي حدقتِ فيه حينما كنتِ صغيرة.

    حمدالله ع السلامه

    ردحذف
  2. الأخضر عين الطبيعة الرائقة . لكنّ هناك من يعبث بنقاوته ويمزجه مع درجات لونية غير أصيلة .. فيظهر صارخاً نزقاً قليل التهذيب ..
    أعرف أخضر المساجد ، له سحنة تبعث على الإطمئنان .
    يسلمك ربّي ..

    ردحذف
  3. الأخضر يبدو جميلا في أحضان الطبيعة،
    لكن حين ينتزعونه بقسوة، و يزجونه بذوق شيء جديد في أشيائهم الأنيقة أكثر ما يجب..
    يصبح قبيحا جدا..!
    الأخضر هو اللون الوحيد القادر على أن يكون قبيحا بدرجة مقرفة.. إن وضع في المكان غير المناسب..
    هنا.. كخلفية لبيتك.. يبدو جميلا بدرجته الزيتية

    ردحذف
  4. الأخضر هو اللون الوحيد القادر على أن يكون قبيحا بدرجة مقرفة.. إن وضع في المكان غير المناسب..

    حقيقي جداً يا أرجوحة . الأخضر لون رهيف الحس يتأثر كثيراً بما حوله .
    يمكنه أن يكون وقورٌ جداً ، أو صفيق جداً ..

    شكراً لذوقك البالغ ..

    ردحذف