الخميس، 13 مارس 2008

نافذة معتمة



جلستْ على عجل ، وزينتها المرتبكة تدل على أنها لم تنظر لنفسها مرتين في المرآة قبل خروجها . لم تنتظر ترحيبي بها وبادرتْ بالحديث :
تدرك لمَ اتصلتُ بك .. حالته تسوء كثيراً ..
لم يغادر غرفة نومنا منذ أيام . الغرفة دائماً معتمة لولا ذلك اللوح الدقيق من النور الممتد عبر انفراج بسيط بين قطعتي الستارة، والأبواب دائماً مغلقة في وجه الهواء الوقح الذي يخنقه حسب تعبيره ..
تتساقط الأيام تباعاً من الرزنامة ولا ينتبه لها . مؤخراً انقطع عن العمل ، وعندما عاتبته بشدّة قال :
أخرج مبكراً ويخرج الناس لأعمالهم ، لمدارسهم ، لمواعيدهم ولا يأتي الصباح . أبقى هناك حتّى يعودوا ، ولا يأتي الصباح .. لم يعد يأتي الصباح يا سمر.. لم يعد يأتي الصباح ..
في آخر مرّة خرجنا معاً تعلّقت عيناه بالنوافذ . اصطدم بالناس أكثر من مرة دون أن يخفض بصره ... وعندما أجبرته على الجلوس والنظر إلي ضحك بعصبية وهو يقول : عندما تفيض البيوت بالحكايات فإنها تتدلى من النوافذ .. النوافذ عيون يا سمر ، النوافذ عيون ..
وبعدها رفض الخروج تماماً . صار يكره القصص المجانية التي يرويها المتسكعون في الشوارع ، ولا تبهره العروض العلنية كما فهمت منه .
يختبئ عن الناس وعنّي . يتعرّى ويندس تحت اللحاف ليكون جسده خالصاً من كل ذكرى كما يعتقد . وعندما حاولتٌ أن أجبره على ارتداء بيجامته ذات يوم ، صرخ بي :
انظري إلى بنطالكِ .. إلى ذلك البروز الدائري في ساقه ... إنه يخبر العالم كلّه أنكِ تثنين ركبتكِ اليمنى بطريقة حادة عندما تجلسين . تثنينها وتجلسين عليها . الملابس فاضحة يا سمر ، الملابس فاضحة ..
هل تدري ماذا يفعل في هذه اللحظة ؟
عدتُ من العمل ووجدته عارياً في الحمام وقدّ رشّ حاوية القمامة الإستيل بالماء وجلس أمامها بصمت ينتظر جفافها . وعندما سألته عن الذي يفعله نظر إليّ بحزن وقال :
لمَ غسلتِ حاوية القمامة ؟؟ كان على غطائها البارحة وجه مألوفٌ تحدّثت إليه طويلاً واستمع لي بهدوء ..
لم يبتعد عن حاوية القمامة لساعات بانتظار ذلك الوجه الذي يعرفه ..


.

الخميس، 6 مارس 2008

عفنٌ مذهّـب ..



في ظهيرة أنعشها الدفء على غير العادة ملأتْ جيوب الوقت بالكلام . تحدّثتْ مطوّلاً عن منزلها الجديد بتصميمه المدهش ، وتكامله الفريد


كان كل ما فيها يتحدّث . البريق في زوايا عينيها ، فتحتا أنفها المتسعتان بانفعال ، سبّابتاها اللتان رسمتا تخطيطاً وهمياً متداخلاً للحجرات والنوافذ والأبواب ، وفمها الذي لا تبتلّ داخله الكلمات .
اختلط هواء الغرفة بغبار بيوت ( العظم ) الخانق ، ومرّ الوقت مترنّحاً مخنوقاً وأنا متورطة بالإيماءات الباردة المتتالية ..
يا ربّ الكلمات دعها تصمت !!
جاهدتُ طوال الوقت لأتعلّق بأهداب عينيها وهي تتكلم ، وغالبت رغبة عميقة لأعدّ أثاث الغرفة ، الأقلام على المكاتب ، شرائح الستارة الخشبية – وسيلتي المعتادة للهروب من الأحاديث الباهتة .
انتهتْ من ( التلييص ) والسباكة والدهان ووصلتْ إلى الديكورات . وفي لحظة شاء الله أن تضلّ قافلة الضجر طريقها ، ذكرتْ الـجبس الأخضرالمذهّب .
كان للكلمة وقع مباغت ... يشبه انغراز كعب حذائي الدقيق بين صفائح معدنية طولية مثبّتة أمام باب البنك الزجاجي قبل أيام .
يالله !! لم يكن ينقصني في هذه الظهيرة الرمادية إلا أمرٌ يعتمد على ذاكرتي المعطوبة !!
جبس أخضر مذهّب ، وبدأت الذاكرة تجرش أعوامها بتثاقل . غابت نوال من أمامي ، وطغى على صوتها الحادّ ضجيج النّساء في مجلس الحريم . وقفتُ ببابه طفلة صغيرة تعلّقت عيناها بالسقف . وأدرك تماماً أني كنتُ صغيرة حينها لأن مقبض الباب دخل في فتحة بين أزارير بلوزتي الخلفية وقطع أحدها عندما تحركت .
لا أذكر الوجوه ، ولا الأسماء ، ولا الأصوات ، ولا أعلم لمَ كنتُ في ذلك المكان ومع من . كل ما اختزنته الذاكرة سقفٌ مزيّن بالجبس المحفور بأشكال هندسية في وسطه ، وفروعٌ مورقة على الحوافّ . كان اللون الأخضر مبتذلٌ جداً ، ولم يوحِ بطيبة الخضرة ولا بدفئها . وكان فوضوياً يخرج من حدود الأغصان ، ويقف قبل أن يصل لزوايا الأوراق . وبلغت البهرجة ذروتها بذلك التذهيب الصارخ اللجوج ..
كان ذلك السقف مزركشاً بشكلٍ مفرط ، وحدّقت طويلاً في تلك الخيانة العلنية للذوق حتّى نسيتُ ما عداها ..
ومنذ الظهيرة وأنا في انتظار ما لا يأتي من الوجوه والأصوات والأسماء ..


.